فصل: من فوائد المراغي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد المراغي في الآيات السابقة:

{وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
الخطاب في هذه الآية للنبى صلى اللّه عليه وسلم، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع اللّه الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم، حين يقول لعيسى اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك... وحين يقول له بعد ذلك: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟ أي يسأله أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم؟
ومعنى قوله من دون اللّه أي متجاوزين بذلك توحيد اللّه وإفراده بالعبادة، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع اللّه تعالى وهو الشرك، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة اللّه خالق السموات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار اللّه إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند اللّه أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه اللّه عنهم في قوله: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى».
وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير اللّه متجاوزا بعبادته الإيمان با للّه الذي هو خالق الكون ومدبره فالإيمان الفطري الذي غرس في نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار اللّه إياه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة- إن اتخاذ إله من دون اللّه يراد به عبادة غيره سواء أكانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده.
وقد نعى اللّه عليهم اتخاذ المسيح إلها في مواضع عدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، ثم أنكرت عبادتها فرقة البر وتستانس (إصلاح المسيحية) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل.
وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر في الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها (والدة الإله).
والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هي وابنها إلهين (والاتخاذ غير التسمية) فيصدق بالعبادة وهى واقعة حتما.
{قالَ سُبْحانَكَ} التسبيح تنزيه اللّه تعالى عما لا يليق به، وأصل الكلمة من السبح والسباحة، وهى الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر ومنه فرس سبوح.
أي أنزهك يا اللّه عن أن يكون معك إله آخر، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة في الذات والصفات.
ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال: {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.
وهو بتنزيهه اللّه أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.
وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ}.
أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته، إذ علمك واسع محيط بكل شيء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه في نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى؟
كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك.
{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام.
وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك- بين حقيقة ما قاله لقومه، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده، فقال: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي إنى ما قلت لهم في شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ} أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودى بينهم.
{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي فلما قبضتنى إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دونى، لأنى إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شيء إذ لا يخفى عليك شيء.
وفى هذا إيماء إلى أن اللّه إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ}.
وقد تقدم في هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ}.
وجاء في إنجيل يوحنا (و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
ثم فوّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن نغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أي إن تعذب من أرسلتنى إليهم فبلّغتهم ما أمرتنى به من توحيدك وعبادتك فضلّ منهم من ضل وقالوا ما لم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيرى من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العليم بالمؤمن المخلص في إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم في تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل في موضعه.
وخلاصة المعنى- إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع، وأنت الحكيم الذي تضع كل شيء موضعه، فلا يمكن أحدا غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ومما يؤيد هذا ما رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآية، وقول عيسى عليه السلام {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم أمتى أمتى، وبكى، فقال اللّه عزّ وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قال- وهو أعلم- فقال اللّه يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك»، وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «ألا وإنه يجاء برجال من أمتى يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول: أصحابى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: {الْحَكِيمُ} قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم».
وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه «أنه صلى اللّه عليه وسلم قام بهذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ...} إلخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبوذر عن ذلك فقال: إنى سألت ربى الشفاعة فأعطانيها وهى نائلة إن شاء اللّه من لا يشرك با للّه شيئا».
فهذه الأحاديث صريحة في أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك با للّه شيئا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها {إن تعذبهم فإنهم عبادك...} الآية. فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؟! قال: إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئًا».
وأخرج ابن ماجة عن أبي ذر قال «قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}».
وأخرج مسلم والنسائي وابن أبي الدنيا في حسن الظن وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن نبي الله تلا قول الله في إبراهيم {رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس فمن تبعني فإنه مني...} [إبراهيم: 36] الآية. وقال عيسى بن مريم {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي وبكى. فقال الله: جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك».
وأخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال «بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يشفع لأمته، فكان يصلي بهذه الآية {إن تعذِّبهم فإنهم عبادك...} إلى آخر الآية. كان بها يسجد، وبها يركع، وبها يقوم، وبها يقعد حتى أصبح».
وأخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن، ومعك قرآن لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه؟ قال: دعوت لأمتي. قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطَّلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة. قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى. فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادة، فناداه أن ارجع فرجع، وتلا الآية التي يتلوها {إن تعذِّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}».
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {إن تعذبهم فإنهم عبادك} يقول: عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم {وإن تغفر لهم} أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض يقتل الدجال، فنزلوا عن مقالتهم ووحدوك، وأقروا إنا عبيد {وإن تغفر لهم} حيث رجعوا عن مقالتهم {فإنك أنت العزيز الحكيم}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} يقول: إن تعذبهم تميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك {وإن تغفر لهم} فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام {فإنك أنت العزيز الحكيم} هذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا. اهـ.